كيف انحرفت منظومة التنوير بعيداً عن أخلاقها المؤسسة؟.
في نهاية القرن الماضي انتشر الرعب، ستتوقف الأنظمة الالكترنية عن العمل، ربما تسقط الطائرات، وتخرج المصانع النووية عن السيطرة، كل هذا، وغيره، بسبب مشكلة العام ٢٠٠٠ وترميز خاطئ لعدد الخانات اللازمة له في أنظمة التشغيل، ولكي لا يحدث هذا السيناريو المرعب قامت الشركات والمؤسسات بدفع مبالغ طائلة للمبرمجين لكي يتم إنقاذ العالم من الدمار قبل الانتقال بسلاسة للقرن الحالي واكتشاف الجميع أنهم وقعوا ضحية ساحر القبيلة الذي كان يستطيع حجب الشمس ومنعها من الظهور دون أن يدركوا أنه يقوم فقط بحساب مواعيد الخسوف أو الكسوف.
بعد سنوات طويلة ستثير شركات الأدوية عاصفة من الهلع العام تشبه عاصفة عام ٢٠٠٠ لتجني أرباحاً طائلة معتمدةً على الذعر العام نفسه وعلى الثقة التي منحها البشر للعلم قبل أن يستغل بعض البشر معرفتهم لاستعباد الآخرين أو لانتزاع أموالهم، حدث هذا سابقاً في المنظومات الدينية لكننا اليوم نشهد ظهوره بوفرة في المنظومات العلمية التي كانت في فترة ما ثورةً على كل دجل عبر اعتمادها منهجاً علمياً رصيناً رسالتهُ نشر التفكير النقدي وتعميق الهوية الفردية على حساب الهوية القطيعية للبشر التي مازال كل طامع بالسيطرة يستغلها أبشع استغلال.
بين المشكلتين مرّت كل تنوعات فخر الدول باختراعات عجيبة من أجل تسويق الأنظمة السياسية والاقتصادية، حضارات رائدة عملاقة، عباقرة، مبدعين، استثنائيين، موهوبين، بينما الحقيقة الصارخة تقول أن كوكب الأرض غارقٌ في الأزمات الإنسانية والعلمية والأخلاقية، هو استغلالٌ للعلم في التثبيت السياسي، وفي فكرة إخضاع الآخرين، قد يكون ساحر القبيلة بمساحة دولة!.
مليارات التقنيين والمختصين يستغلون عدم قدرة أي فردٍ بشري على الإحاطة بكل علوم الأرض ولو على سبيل الاطلاع السطحي فقط، يستغل هؤلاء هذه الحقيقة البسيطة لتسويق خداعهم للآخرين وتحويل هذا الخداع إلى مصدر كسبٍ مالي أو كسب نفوذ وسيطرة، في كل هذه الحالات وغيرها انزاح العلم بعيداً عن غايته، ابتعد عن الجانب التنويري ليغرق مع كل الغارقين قبله في لعبة تضليل البشر وخداعهم، أصبح صوت العلماء الحقيقيين شاذاً بين جموع السحرة والكهنة الجدد، حتى أصبح هناك ما يشبه الأخويات الدينية التي تتبادل سراً فيما بينها أحدث أساليب خداع الناس، نوعٌ من التعليم الشفهي للممنتسبين الجدد لها، ثقافةٌ غير مدونة، لا أحد يريد إعادة خطأ كتابة ميكافيلي لكتابه الأمير!.
ما يهم في العلم حقاً هو تدريس المنهج العلمي، كيف ندرب العقل البشري على الاستقلال، على النقد، على تمييز أشكال الاستغلال والخديعة، على التمرس في آليات الهدم والبناء العلمي، لا يوجد علم دون نقضٍ دائم ومستمر لكل ما هو قائم وهو أمر يتعارض بشدة مع كل أنواع منظومات الاستغلال الاقصادية والسياسية والاجتماعية، ظهور شيوخ العلم هو إعلان دخول البشرية في حقبةٍ مظلمة تحتاج إلى عصر تنويرٍ جديد، تحتاج إلى مثقفين وعلماء حقيقين يعيدون للثورة العلمية على الجهل العام زخمها، وأخلاقياتها، والتزامها الصارم بقول الحقيقة القابلة للنقد وللشك دون التهديد بسجنٍ، أو نبذٍ، أو اعتقال، أو قتل، كما حدث في الأزمة الصحية الأخيرة التي وصلت بالبعض إلى التحريض على اعتقال وحتى قتل من يخالف التوجه العلمي الرسمي الذي تم تعين شيخ له في كل دولة يرتبط أدبياً بالشيخ العام الذي يفتي للجميع بما يتوجب هليه فعله.
أخيراً شهدنا ولادة ناطق علمي عام بمهمةٍ رسمية دولية تشبه مهمة البابا في العصور الوسطى.
للحديث بقية..